بين عشية وضحاها، أصبح سكان عدد من الدواوير نواحي مدينة تاهلة التابعة لعمالة إقليم تازة بدون مَورد رزق، بعد أن أتت حرائق الغابات على أشجارهم المثمرة وأغراسهم، وحوّلت المُروج التي كانت تتزين في الصيف والخريف بمختلف أنواع الفواكه إلى شبه صحراء قاحلة.بمحاذاة البيوت الواطئة في قرية عْري المختار، بجماعة الصميعة، مازال الدخان يتصاعد من جذع شجرة ضخم حوّلته الحرائق إلى قطعة فحم هائلة، مذكّرا السكان بساعات الجحيم التي عاشوها قبل أيام، وفقدوا فيها كل شيء، كما يذكرهم اللون الأسود الفاحم الذي اكتساه الجذع المحترق بمستقبلهم القاتم.
لم يتعدَّ الدعم الذي حصل عليه سكان القرى المعزولة وسط الجبال نواحي تاهلة بضعة أكياس من الشعير، ومعها بضعة آلاف من الدراهم، لا تكفي حتى لإعادة بناء أسقُف زرائبهم المهدمة، بحسب إفادات لهم، ويتساءلون: “هل هذا هو نصيبنا الحقيقي من تسعة وعشرين مليارا التي قالت الحكومة إنها ستمنحها للمتضررين من حرائق الغابات؟”.أين الملايير؟فقَد محمد الخطار، القاطن في دوار عْرِي المختار، ثلاثة مخازن كانت مملوءة بالتبن والشعير والعلف، و170 شجرة خروب و160 شجرة زيتون، لكن التعويض المالي الذي حصل عليه لم يتجاوز 15 ألف درهم، ويتساءل بلسان يتطاير منه الزّبد: “بغينا غير نعرفو هاد الفلوس اللي عطاونا ديالاش، واش ديال الزرع، ولا التبن، ولا السقف ديال الكْوارا (مخازن) اللي طاحت”.
المأساة نفسها التي لحقت بمحمد الخطار لم ينْج منها جاره، الذي لم تترك له النيران غير عشْر نعجات اضطر إلى التخلص منها مُكرها، ببيعها، بعد أن التهمت الحرائق كل شيء ووجد نفسه عاجزا عن توفير الكلأ لها، في وقت مازال سكان الدوار يتساءلون: “أين ذهبت الملايير التي خصصتها الحكومة للمتضررين من حرائق الغابات؟”.يقول محمد الخطار: “الفلوس اللي عطاونا شديناهم من الولاية، والدعم اللي سمعنا عليه ديال 29 مليار هاداك ما شفنا منّو والو”، مضيفا: “شفنا الناس فالشمال تّْعوّضوا مزيان، بالكسيبة والفلوس، إلا حنا فهاد المنطقة تقصينا، معرفتش علاش. كاينة شي حاجة ماشي هي هاديك، واش مقيّدوش داكشي هو هاداك.. بغينا غير اللي يجاوبنا على السؤال، علاش تقصينا؟ والله حتا نرتاح”.
حين سلم القائد لمحمد الوصْل الذي سيسحب به التعويض المالي من الخزينة العامة رفض تسلّمه، لأنه كان ينتظر الحصول على مبلغ ملائم للخسائر التي تكبّدها. “لكن القائد قال لي ضروري تاخدو، وسير صرّفو ولا خليه عندك، ولا ضبر راسك”، مضيفا: “لا كان غير مليون ونص كاينين محسنين اللي يعطيوها لي، بلا من هاد الهيلالة”.ويصف سكان دوار “عري المختار” الحرائق التي اندلعت في منتصف يوليوز الماضي بـ”الكارثة”، غير أن الأهم بالنسبة إليهم هو ما بعدها. “دبا اللي عطا الله عطاه، داكشي اللي مشا مشا، وخاصنا باش نعيشو”، يقول أحد سكان الدوار، لافتا إلى أن الأضرار التي لحقت بالسكان ستمتد لسنوات، لاسيما بالنسبة لغلات الأشجار، إذ تحتاج الشتائل إلى سنوات لكي تنمو وتثمر، بينما قال مواطن آخر: “ما بقا لينا إلا نهاجرو”.
وقَدِم مسؤولون من السلطة المحلية إلى الدوار بعد السيطرة على الحرائق من أجل تقييم الخسائر، غير أن السكان يقولون إن التقييم بُني على معاينة فورية، دون الاستماع إليهم حتى؛ ويَعتبرون أن ما وصلهم من دعم لا يتناسب وحجم الخسائر التي تكبدوها.ولم يتعدّ الدعم الذي حصل السكان كعَلف للماشية ما بين 7 إلى 13 كيسا من الشعير لكل أسرة، فيما تراوح التعويض المالي ما بين 15 ألف درهم و30 ألف درهم، دون توضيح المعايير التي وضعتها السلطات لتوزيع الدعم، وهو ما فتح المجال أمام عدد من التأويلات.وحسب إفادات من المكان فإن مواطنا احترق له مخزن واحد حصل على 30 ألف درهم، في حين أن آخرين طالتهم خسائر أكبر وحصلوا على تعويض مالي أقل.
إحصاء الخسائر
في مدينة تاهلة، يخوض عدد من الفاعلين الجمعويين معركة من أجل مد يد المساعدة للمتضررين من الحرائق في المنطقة، غير أنهم يواجهون مجموعة من العراقيل، فحتى إحصاء الخسائر التي تكبدها السكان منعتهم السلطات من القيام به، بداعي أن ذلك ليس من اختصاص المجتمع المدني؛ بينما يؤكد حسن قرطيط، فاعل جمعوي، أن القانون المنظم لعمل الجمعيات يُجيز لها ذلك.وتم إنشاء مبادرة مدنية بشراكة بين جمعية أدرار ودينامية تمورت بهدف مساعدة المتضررين، تضمنت أربع لجان، هي لجنة تشخيص الوضع، بشراكة مع السكان، مهمتها، بحسب قرطيط، “نقل الوضع بشكل مضبوط، بدون تضخيم وبدون تبخيس”، ولجنة تقديم المساعدات، ولجنة التواصل، ولجنة المراقبة.
ويضيف الفاعل الجمعوي ذاته، الذي يرأس نادي تشليل للسياحة الجبلية، أن السلطات منعت، منذ اليوم الأول، إجراء أي تشخيص، معللة قرارها بعدم التوفر على ترخيص، مردفا: “هذا النشاط يدخل ضمن اختصاص الجمعيات، كما هو منصوص عليه في قانونها الأساسي، ولا يحتاج إلى ترخيص، بل يتطلب فقط إشعار السلطات قبل ثمانٍ وأربعين ساعة”، وزاد: “السلطات خْصها تدير المجتمع المدني فجنبها، ماشي تمنعو”.وبعد منع السلطات المحلية إجراء التشخيص من طرف اللجنة المدنية التي أسندت إليها المهمة، اضطرت هذه الأخيرة إلى الاكتفاء بالتنسيق مع أعضائها المحليين في الدواوير التي تضررت من الحرائق، ما أخّر توفير معطيات إحصائية شاملة حول حجم الخسائر، خاصة الخسائر التي تعرضت لها ممتلكات الساكنة غير المقيمة.
وفيما يسود غضب وسط سكان المناطق المتضررة من حرائق الغابات نواحي تاهلة، اعتبر حسن قرطيط أن “الخطأ الذي ارتكبته السلطات هو أنها لم تعتمد على تشخيص دقيق لتقديم الدعم للمتضررين”، مضيفا: “اللوائح التي تم اعتمادها لم تكن مضبوطة، فهناك من لديه عدد قليل من رؤوس الماشية وحصل على كميات من الشعير أكبر من الذين لديهم قطيع أكبر”.الأمر ذاته انطبق على توزيع الدعم المالي على المتضررين، إذ أكد المتحدث أن التعويض عن الأضرار التي لحقت المباني لم يكن عادلا، إذ استفاد شخص فقَد مخزنا واحدا من ثلاثة ملايين سنتيم، في حين أن مواطنا في دوار سوق الشجرة أتت النيران على بيته بما فيه من أثاث لم يحصل سوى على مليون ونصف مليون سنتيم.
ولم يقتصر منع السلطات المحلية على منع المجتمع المدني من تشخيص الخسائر الناجمة عن الحرائق، بل منعت أيضا إقامة مباراة في كرة القدم وأمسية فنية كان المنظمون يعتزمون تخصيص ريْعهما للسكان المتضررين.في هذا الإطار قال مصطفى بركاط، فاعل جمعوي، مدير جمعية الكرامة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بتاهلة، إن “دينامية تمُورت”، التي قدمت مساعدات عبارة عن أغذية وألبسة لفائدة 240 أسرة، كانت بصدد الزيادة في حجم المساعدات من خلال تنظيم مباراة في كرة القدم وأمسية ثقافية، غير أن السلطات لم ترخص لتنظيم النشاط.وأكد المتحدث ذاته أن السكان المتضررين من حرائق الغابات لا يحتاجون فقط إلى مساعدات آنية، بل إلى مشاريع تنموية مستديمة، وإلى تجهيز المنطقة بالبنية التحتية اللازمة وفي مقدمتها الطرق، وتعويض الغطاء الغابوي من خلال تشجير المناطق المحترقة.
سُخط على المنتخبين
يحمّل سكان الدواوير المتضررين من حرائق الغابات نواحي تاهلة نصيبا من مسؤولية عدم استفادتهم من دعم كافٍ لمنتخبي المنطقة، الذين قالوا إنهم لم يدافعوا عنهم مثلما دافع المنتخبون عن المتضررين في مدن الشمال.“ما شفنا تا واحد من الجماعة، رغم أن جماعة الصميعات هي من بين الجماعات الغنية في المنطقة، ما طْل علينا تا واحد، ما جابو لينا حتى بيدو ديال الماء”، يقول محمد الخطار، قبل أن يتساءل: “مْع من غتهضر”.
وتابع المتحدث: “مشات لي 170 شجرة د الخروب، و160 شجرة د الزيتون كلها كتجيب الغلة، هاد العام بقيت حتى حبّة، بقيت الله كريم، زيتونة وحدة معنديش، كلشي كلاتو العافية، وما كاينش اللي هضر لينا على التعويض على الغلّة ولا شحال من شجرة مشات لك، واشنو ضاع لك”.من جهته قال عْمر، أحد سكان دوار سوق باب الشجرة: “لم يأتِ عندنا أحد من السلطات ليسألنا عن حجم الخسائر التي لحقت بنا”، واصفا المساعدات التي حصل عليها المتضررون بـ”المحتشمة”.
وتابع عْمر، وهو ينظر إلى مساحة من أشجار الزيتون حوّلتها نيران الحرائق إلى فحم: “الأشخاص الذين احترقت بيوتهم استفادوا من تعويض 15 ألف درهم، وهي غير كافية، قد يكون هذا المبلغ كافيا في التسعينيات، أما الآن فهو غير كاف حتى لدفع أجور عمال البناء”.ورغم أن حرائق الغابات نواحي تاهلة اندلعت صباحا فإن السلطات لم تصل إلى دوار سوق باب الشجرة إلا بعد الساعة العاشرة، بحسب إفادة عمر.ويُرجع محمد الخطار سبب تأخر السلطات والوقاية المدنية إلى وعورة الطريق، قائلا: “كون كانت الطريق مزيانة مكانتش أتوقع هاد الكارثة، وحنا شحال هادي وكنطلبو بالطريق ومكاين والو”.
اللافت للانتباه هو أن عددا من جذوع الأشجار مازالت تتقد فيها النيران، ويتصاعد منها الدخان، غير أنها لم تعد تثير مخاوف الناس من أن تنقلها الريح فتشتعل حرائق جديدة، لأن الغطاء الغابوي في المنطقة احترق بشكل شبه كامل، وهو ما عبّر عنه أحد السكان بالقول: “تا لا شعلات العافية ما بقا ما تاكل. كلشي مشى”.وفي غمرة الغضب الذي يسود وسط السكان المتضررين من الحرائق نواحي تاهلة، لا يجد محمد الخطار من وسيلة للتنفيس عن نفسه سوى البكاء أمام أطلال المخازن المحترقة بما فيها..يقول مشيرا بأصبعه إلى أحد المخازن: “كنجي لهنا وكنبقا نبكي تا نعيا ونطلع فحالي ننعس”.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر