أبوظبي ـ وكالات
يحفل تاريخ الإمارات العربية المتحدة بالأمثلة والشواهد التي تدل على مثابرة وعزمِ وهمةِ أهلها، وقدرتهم العالية وإصرارهم على تخطي الصعاب والتغلب عليها، حيث يأتي ذلك نتيجةً لسياسات وقرارات مدروسة وحكيمة من القيادة الرشيدة . ومنذ القدم، أوضح لنا نجاح أجدادنا في قهر التحديات كيفيةَ التأقلم مع ظروف بيئتنا الصعبة، وغرس في قلوبنا العزم والهمة على قهر الصعاب .
وعلّمنا إرث الأجداد المثابرة على التقدم والعمل لإيجاد حلول لشتى التحديات، وكانت هذه العزيمة الصلبة والإرادة القوية والإخلاص في العمل، وما تزال، هي أحد أهم أسرار نجاح الإمارات ومنبع قوتنا لننهض بحياتنا إلى آفاقٍ أسمى ونبني مستقبلاً زاهراً لأجيالنا القادمة . وأصبحت التنمية المستدامة أحد أهم دعائم الاقتصاد والوسيلة المثلى لمواصلة مسيرة أجدادنا وضمان مستقبل أبنائنا من خلال الإدارة الحكيمة للموارد .
وتعد الطاقة من أهم دعائم التنمية وتأمين متطلبات التقدم والتطور الاقتصادي، حيث تميزت الإمارات باستثمار مواردها الهيدروكربونية الوفيرة لبناء بنيةٍ تحتية متطورة كان لها دور محوري في النهضة التي نعيشها اليوم . وللمحافظة على المكانة العالمية المتقدمة للإمارات في قطاع الطاقة، اتخذت القيادة الرشيدة قراراً استراتيجياً بخلق مزيج متنوع من المصادر يشمل، إلى جانب الطاقة التقليدية، كلاً من الطاقة النووية والمتجددة، بما يسهم في تعزيز أمن الطاقة وتحقيق التنمية المستدامة والحد من تداعيات تغير المناخ .
وتماشياً مع هذه الرؤية، بدأت “مصدر” منذ العام 2006 جهودها لتطوير مشاريع الطاقة المتجددة على نطاق واسع بهدف تنويع مزيج الطاقة ودعم نمو القطاع على المستويين المحلي والعالمي . وبعد افتتاح “شمس1” التي تعد أكبر محطة للطاقة الشمسية المركزة تعمل من خلال وحدة توليدٍ واحدة في العالم، نتوقف اليوم لتسليط الضوء على حدث جديدٍ ساهم في تعزيز مكانة الإمارات في قطاع الطاقة، وهو تدشين “مصفوفة لندن”، أكبر محطة لطاقة الرياح البحرية في العالم، حيث شاركت “مصدر” بفعالية وتميز في تطوير “مصفوفة لندن” التي تقع على بعد نحو 20 كيلومتراً قبالة سواحل مقاطعتي “كينت” و”إيسكس” في المملكة المتحدة .
ولهذا المشروع تأثيرات إيجابية ومهمة في محاور عدة منها تنويع مصادر الطاقة وبناء كوادر وطنية لقيادة هذا المجال في المستقبل وإرساء مكانة قيادية لدولة الإمارات في مجال الطاقة المتجددة وضمان قدرتنا التنافسية على الصعيد العالمي . وجاء قرار الاستثمار في “مصفوفة لندن” بعد إجراء دراسة مفصلة شملت جميع الجوانب الفنية والاقتصادية للمشروع، حيث توفر المملكة المتحدة إطاراً تنظيمياً مشجعاً وداعماً لنمو قطاع الطاقة المتجددة، كما أنها تتمتع بموقع جغرافي ممتاز تتوافر فيه الرياح البحرية القوية على مدار العام بما يضمن مستويات عالية من القدرة الإنتاجية .
ومع انضمام “مصدر” إلى تحالف الشركات المطورة للمشروع، قامت “مصدر” بقيادة المفاوضات مع الحكومة البريطانية للحصول على شهادة الالتزام بالطاقة المتجددة، وهي عبارة عن نظام الدعم الذي توفره المملكة المتحدة لمنتجي الكهرباء على نطاق واسع . وبفضل الدور النشط لدولة الإمارات العربية المتحدة في قطاع الطاقة المتجددة، والعلاقات الوطيدة التي تربطنا مع المسؤولين في المملكة المتحدة، نجحت هذه المفاوضات وتوصلنا إلى النتيجة المنشودة التي تضمن النجاح ل”مصفوفة لندن” .
وتعمل “مصدر” على بناء شراكات دولية فاعلة مع شركات عالمية رائدة تسهم من خلالها بتطوير وتنفيذ مشاريع تساعد على ضمان أمن الطاقة والحد من آثار تغير المناخ، وبالتالي تعزيز الدور القيادي لدولة الإمارات العربية المتحدة في قطاع الطاقة . وتضافرت جهودنا في “مصفوفة لندن” مع أكبر الشركات المتخصصة في مجال طاقة الرياح البحرية، بما فيها “دونج إنرجي” و”إي أون”، وتم تكليف “سيمنز” بتوريد توربينات حديثة تم تصميمها خصيصاً لمصفوفة لندن، حيث بلغ عددها 175 توربيناً باستطاعة تبلغ 6 .3 ميجاواط لكل منها .
وقامت “مصدر” بإيفاد مجموعة من الكوادر الإماراتية الشابة للعمل في مختلف مراحل المشروع لاكتساب الخبرة والمعرفة والاستفادة منها في مشاريعنا المستقبلية، سواء في دولة الإمارات أو في مختلف أنحاء العالم للعمل على تطوير هذا القطاع الناشئ وبناء اقتصادٍ متنوع لا يعتمد فقط على الموارد الطبيعية بل على المعرفة، لتصبح هذه الكوادر من أهم قادة القطاع في العالم .
ويعد إكمال المشروع في الوقت المحدد إنجازاً متميزاً بمختلف المقاييس، لاسيّما الإنشائية والهندسية، فقد واجهنا الكثير من التحديات المرتبطة بالموقع في مراحل الإنشاء، مثل الطقس العاصف والتيارات القوية المصاحبة للمد والجزر وما تؤدي إليه من تحرك الرمال وتفاوت عمق البحر والذي يصل في بعض مواقع المشروع إلى 25 متراً، هذا إضافةً إلى ضمان عمل سلاسل الإمدادات اللوجستية دون انقطاع في هذه الظروف الصعبة .
وتطلب التصدي لهذه التحديات الاستفادة من أحدث التقنيات الجديدة وابتكار حلول ذكية . وتمكنّا مع شركائنا من تركيب التوربينات التي يصل ارتفاع العمود الأساسي لكل منها إلى 87 متراً، يضاف إليه ذراع التوربين ليصل الارتفاع الإجمالي إلى نحو 150 متراً . وتم تمديد كابلات بطول يزيد على 400 كيلومتر لربط التوربينات مع المحطات الفرعية، ومن ثم مع شبكة الكهرباء في منطقة لندن الكبرى . وبفضل الإتقان والبراعة والتركيز على التفاصيل، أصبحت “مصفوفة لندن” تحفة هندسية في مجال محطات طاقة الرياح البحرية .
وخلال مراحل التنفيذ، امتزجت الخبرة الكبيرة التي تمتلكها الإمارات العربية المتحدة في منشآت الطاقة من خلال حقول النفط والغاز في الخليج العربي والتي تطلبت تشييد منصات بحرية عملاقة، مع الخبرة البريطانية في المجال ذاته من خلال حقولها في بحر الشمال، ليتم إنشاء “مصفوفة لندن” بنجاح تام وفي الوقت المحدد ودون أي حوادث . ويؤكد ذلك قدرة دولة الإمارات على الاستفادة من خبراتها الكبيرة في قطاع الطاقة لترسيخ مكانتها كمزود أساسي للطاقة .
ويؤكد هذا المشروع الجدوى الاقتصادية لمشاريع الطاقة المتجددة على نطاق المرافق الخدمية واسعة النطاق، فضلاً عن أنه يسهم في تعزيز حصة الطاقة المتجددة ضمن المزيج العالمي لمصادر الطاقة، حيث تسعى “مصدر” من خلال مشاركتها في “مصفوفة لندن” أن تكون مزوداً عالمياً للخبرة والمعرفة في مجال الطاقة المتجددة .
وسواء كانت مشاريعنا كبيرة من حيث الطاقة الإنتاجية مثل 100 ميجاواط لمشروع “شمس1”، أو أقل من ذلك مثل 15 ميجاواط لمحطة الشيخ زايد للطاقة الشمسية في موريتانيا؛ فإن القاسم المشترك بينها جميعاً هو أنها تحقق آثاراً كبيرةً ومهمةً من حيث تعزيز انتشار حلول الطاقة النظيفة . وتزداد أهمية هذا الأثر في البلدان والمجتمعات النامية التي تستفيد بشكل كبير من كل كيلوواط جديد تتم إضافته إلى قدرتها الإنتاجية .
وبكل تأكيد، ستستمر مسيرة التقدم والبناء التي تشهدها دولة الإمارات في شتى المجالات بخطى ثابتة، لاسيما مجال الطاقة، لنحافظ على مركزنا المتقدم للسنوات القادمة وضمان مستقبل أجيالنا الصاعدة ولنبقى من أهم اللاعبين الفاعلين في اقتصادات الطاقة على مستوى العالم . وسنستمر على خطى أجدادنا في مواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص للتطور والنجاح والابتكار، ومع دخولها مرحلة التشغيل العملي رسمياً، ستسهم “مصفوفة لندن” بترسيخ مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة كلاعب أساسي في مجال الطاقة في العالم، وإبراز مكانتنا كخبراء في هذا المجال . وستبقى أعين “مصدر” تتطلع للمزيد من فرص التعاون والاستثمار في مجالات التقنيات النظيفة الواعدة ومشاريع الطاقة المتجددة .
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر