لندن -المغرب اليوم
من الأسئلة التي تطرح عليّ، بحكم عملي وشغفي بالأكل وتقييمه: «ما هو مطعمك المفضل؟»، والجواب الدائم: «الإجابة صعبة لأنه لا يمكن أن أختصر مسيرتي في مطعم واحد»، ولكن لا أخفي سراً إذا قلت إن هناك مطاعم أو أماكن أو حتى معالم تبقى عالقة في مخيلتي لأسباب مختلفة.
السفر واختبار كل ما هو جديد يعتمد على القدرة على اكتشاف أسرار المدينة في أقل مدة ممكنة، والتنظيم والتخطيط يلعبان دوراً مهماً في نجاح أي رحلة أو زيارة، ولكن تبقى هناك أماكن تفرض نفسها على ذاكرتك، فتراها مترسخة فيها لا يمكن أن تنساها، وأحدث مثال على ذلك زيارتي الأخيرة لمطعم «لو غريل» (Le Grill) الواقع في الطابق الأخير من فندق (Hotel De Paris) في مونتي كارلو.
ومع كثرة وجود المطاعم الراقية في إمارة موناكو، يصبح مشهد الطعام المميز أمراً عادياً، لكن ذلك تغير بدخولي إلى مطعم «لو غريل» الذي لم أكن مهيأة نفسياً ولا فكرياً له لأنني لم أقرأ عنه، ولم أعرف أي شيء يخصه غير أنه يقع في ذلك الفندق.
المفاجأة كانت فعلاً غير متوقعة! فبمجرد الدخول إليه، تشعر برهبة، وتحس أنك تطير فوق غيوم الإمارة. تدخل إلى الغرفة التي احتفلت فيها الأميرة غريس كيلي بعيد زواجها العشرين من الأمير رونيه، ومنها ترى مونتي كارلو في قبضة يدك؛ لا أبالغ إذا قلت إن الشرفة المفتوحة المطلة على المتوسط تجعلك مسحوراً بالروعة المحيطة بك من كل صوب، إن كان من ناحية الديكور الجديد للمكان، حيث أضيفت عناصر أكثر عصرية على المطعم بعدما خضع الفندق بكامله لعملية تجديد، وإضافة صالة «وينستون تشرشل» الخاصة الجديدة، أو التراس الذي يلف الطابق العاشر من جميع زواياه.
ويشرف على المطعم الشيف التنفيذي فرانك شيروتي الذي يختصر المطعم بعبارة: «البحر المتوسط»؛ وبالفعل التعبير صحيح لأن الديكورات تحاكي المتوسط بتدرج ألوانها الزرقاء.
وقد أضيفت مشواة تعمل على الحطب تتصدر القاعة يطهى عليها الدجاج صغير الحجم، أو ما يعرف بـ(Poussin)، ويتم تقديمه على الطاولة وهو معلق على قاعدة حديدية. وبعدها، يقوم النادل بتقطيعه بطريقة منمقة، وتضاف الصلصلة الخاصة إليه. وفي حال لم تكن من أرباب أكل الدجاج، يمكنك اختيار أي نوع من الأسماك المتوفرة التي تقدم مشوية، مع إضافة صلصة يدخل فيها المانغو والخضراوات وتعطيها نكهة غير عادية.
الخدمة في «لو غريل» تتفوق على نفسها، والسبب هو أن هذا المطعم يعتبر معلماً بحد ذاته، ولا يقصده الزائرون للأكل فقط إنما لاختبار المدينة لأنه يلخص رقيها ويترجم خاصيتها. وطاقم العمل مهني إلى أقصى الحدود، والزبائن من طبقات اجتماعية راقية جداً، والأجواء راقية بكل حذافيرها، والجلسة في الخارج رائعة لأنها تطل على ساحل الريفييرا، حيث يمكنك تناول الغداء أو العشاء، ولكني يبقى سحر الليل أجمل وهو يغازل الأنوار المنبثقة من القبب واليخوت والقصر.
زيارة مطعم «لو غريل» هي بمثابة تجربة فريدة لا يمكن أن تنسى، وإذا حالفك الحظ وقمت بزيارة المطعم، لا بد أن تجرب «السوفليه»؛ الكل يعرف أني لست من أنصار الحلوى والسكريات، وعندما قلت للنادل إني لا أنوي طلب طبق محلي في نهاية العشاء، نظر إلى بطريقة غريبة، قائلاً: «لا بد أن تجربي (السوفليه)؛ الذواقة يأتون من أبعد أصقاع العالم لتجربتها... جربيها لن تندمي»، وحذرني بأن تحضيرها سوف يستغرق نحو عشرين دقيقة لأنها تحضر طازجة ومن الصفر؛ كيف لي أن أمانع وأعترض والدقائق تمر كالثواني من روعة الإطلالة والمكان.
وجاءت «السوفليه»، ويا لها من حلوى! إنها بالفعل ألذ «سوفليه» تذوقته في حياتي، وقد جربت نوعين: «السوفليه» السادة و«السوفليه» بالفستق الحلبي؛ النكهة كانت رائعة جداً، وخفيفة أيضاً، والشيف المسؤول عن وصفة «السوفليه» المميزة هو طاهي الحلوى أوليفييه بيرجيه الذي جاء من باريس وفي جعبته خبرة من علامة «ألين دوكاس»، أضاف إليها لمسته الخاصة من خلال إضافة الفستق والفانيلا والفاكهة الحمراء.
باختصار، تبقى هناك مطاعم للأكل فقط، وأخرى تتحول إلى ذكرى رائعة لا يمكن أن تمحى من الخاطر ومن حاسة الشم، فعندما أتذكر هذا المطعم سوف يخطر على بالي المنظر الرائع المطل على البحر، والعلو الشاهق لدرجة أنك تشعر أنك في طائرة تعانق النجوم، ورائحة الطعام، لا سيما الطبق الأشهر في المطعم الذي يأتيك إلى الطاولة، وتنبثق منه رائحة أشبه بالعطر والعود والبخور. وتبقى «السوفليه» تجربة فريدة جداً، من دون أن ننسى الأطباق الأخرى التي تتخلل العشاء المؤلف من 4 أطباق، بسعر 134 يورو.
قد يهمك ايضًا:
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر