لا يمكن أن يكون هناك أروع من التواجد بسفينة تمخر مياه مضيق البوسفور الهادئة وفي جانب تطل القارّة الأوربية وفي جانب مقابل تطل القارة الآسيوية. اسطنبول تستطيع أن تكون مدينة بقارتين وببحرين وبآلاف الحكايات والطموحات. ومن سوء الحظ أننا في هذا الوفد الصحفي لم نكن في سياحة، وربما يقول المرء هل من اختار الصحافة أصلا يمكن أن يطمح لمطلب كالاستجمام؟!
في واحدة من أجمل البقع في العالم وأكثرها استجلابا للسياح، كانت الأخبار من الرباط السعيد تنتزع منا لحظات الانبهار. سمعنا هناك أن الحكومة امتلكت الشجاعة وفتحت ملف المقاطعة الشعبية الواسعة لثلاثة منتوجات استهلاكية، وعندما فتحنا الصفحة، وجدنا أن وزراء من البيجيدي سجلوا أسوأ موقف سياسي في تاريخهم، بل لنقل أبلده، وربما كان هذا الموقف أكثر سوءا من البلاغ المشؤوم لأحزاب الأغلبية الحكومية خلال حراك الحسيمة، حينما وصموا شباب الريف بالانفصاليين.
لقد اعتبرت الحكومة أن المقاطعة هي نتاج خبر زائف حول أثمنة الحليب ومنابع الماء المعدني وأسعار المحروقات، وبالتالي فإن الحل هو تشديد العقوبة على مروجي الأخبار الزائفة، دون أن تلتفت إلى أن ملايين المغاربة المقاطعين ليسوا أغبياء حتى يستجيبوا لدعوات زائفة، وأنهم مستهلكون، وهم أدرى من الحكومة بالعجز الناجم عن قدرة جيوبهم مقارنة مع مستلزمات اقتناء المواد الاستهلاكية. فأي ذبابة هاته التي لدغت وزراء من حكومة السيد سعد الدين العثماني حتى يسقطوا في هذه الفداحة من القول والغرابة من سوء التقدير؟
قدرت أن هناك فريقا سياسيا أريد له أن يكون بديلا منتظرا بعد أربع سنوات، إلا أن هذه المقاطعة وردود الفعل الأولى عليها التي أصبح لها عنوان "المداويخ" قد قضت نهائيا على حظوظ البديل، وفي نفس الوقت بقي الفريق الإسلامي بعيدا عن نار هذه الهبة الشعبية غير المسبوقة، خصوصا وأن وزير التشغيل محمد يتيم مثلا في بداية المقاطعة قال في تصريح صحافي إن هذا يعبر عن حيوية في المجتمع، فكان القرار هو أن يؤدي الإسلاميون جزءا معتبرا من الثمن السياسي لهذا الحراك الجديد في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أدّوه بالتمام والكمال، فتعازينا الحارّة!
على هذا الإيقاع الجنائزي نزلنا من السفينة ودفنا هذه المنغصات في نوم سريع لنقبل على يوم جديد في هذه الرحلة التركية، التي بدأناها كما أسلفنا في العدد الماضي بتغني السيد أردوغان بنزار قباني على أبواب القدس.
كان وزير الثقافة والسياحة نعمان قورتولموش واثقا من أن الذين يستمعون إليه يفهمون ما ظهر وما بطن من كلماته، فنحن من المغرب الأقصى إن كنا بعيدين جغرافيا وتاريخيا عن تركيا، بحيث إننا لم يسبق أن خضعنا لحكم الدولة العثمانية، فإن أغلب الزملاء كانوا في عمق علاقات متشعبة، التاريخ والحاضر فيها متشابك مليء بالتموجات، بل إنهم على الحدود مع الأتراك الجغرافية والعاطفية على حد تعبير الوزير نعمان، الذي قال إنه بعد احتلال العراق بدأ تطبيق سايكس بيكو جديدة هي عبارة عن "رسم حدود في القلوب بين الأتراك والأكراد والعرب والعجم…".
صحيح يوجد في تركيا فقر، وقد قال لنا سائق الطاكسي حين طرق شخص من سوريا النافذة يطلب المساعدة إن أتراكا بدأوا ينتحلون صفة سوريين ويحفظون بعض كلماتهم ليتسولوا. إن هذه الصورة الشعبية لا يمكن أن تمنع كل المسؤولين الأتراك من أن يتحدثوا عن بلدهم كقوة عظمى، لها شرعية الإنجاز الاقتصادي والشرعية الأخلاقية أيضا. كلهم بدون استثناء تحدثوا عن كونهم الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين بخصوص المأساة السورية، وكلفهم إيواء 3,5 مليون نازح 33 مليار دولار. صديقنا الجزائري سعد ظل يمزح في كل مرة تثار فيها هذه الاستعارة: "عندنا الأنصار والمهاجرون، فأين هو أبو لهب؟!".
وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو كان أكثر صراحة، وخاطب الحاضرين: أي حاكم عربي قدّم لفلسطين ما قدمه الرئيس أردوغان وتركيا؟ ولكن وزير الثقافة نعمان ذهب أبعد من الصراحة وقص علينا قصتين نترك للقارئ الكريم حرية تأويلهما: القصة الأولى تتعلق بزيارة له مع وفد تركي إلى الجزائر العاصمة، وحين نبهوهم إلى أن زيارة المدينة العتيقة فيها مشكل أمني أصروا على تحدي المشكل، وحين اختلطوا بالناس وسألهم جزائريون هل أنتم أصحاب أردوغان وأجابوا بالإيجاب، ذرف الجزائريون الدموع! والقصة الثانية هي أن الجنود الأتراك كانوا مع قوات الناتو بأفغانستان، والمرأة الأفغانية لا تدخل على رجل غريب حتى وإن كان أفغانيا، ولكنها كانت تدخل على الأتراك الرجال. فتساءل هؤلاء: هل هذا يعني أننا كأتراك لسنا رجالا؟ فكان الجواب أنهن يعتبرن الجنود الأتراك بسبب أخلاقهم مَحَارم!
إن حزب العدالة والتنمية يحكم تركيا منذ 16 عاماً وتحس أنه عازم على الحكم لمدة عقود، فهو يقود البلاد بيد من حديد وببالغ الذكاء، وربّما يعتبر أردوغان أكبر من الحزب نفسه، فالوزراء وكبار الشخصيات يتحدثون عنه بإجلال، والذين يختلفون معه يغادرون، مثل وزير الخارجية السابق المثقف داوود أوغلو، ويمكن أن نحس بهذا الطموح الإمبراطوري للأتراك في المنطقة العربية، وهو ما يسميه بعض خصومهم حلم إحياء العهد العثماني، إلا أن ما لا يمكن الاختلاف معهم فيه هو إنجازاتهم الاقتصادية الباهرة وعلى الأقل الماكرواقتصادية.
عندما زرنا ورش بناء أكبر مطار في العالم بإسطنبول ذهلنا. سيبنى على مساحة 76 مليون متر مربع، وسيستقبل 200 مليون مسافر في السنة، وستقلع فيه ستون طائرة في كل ساعة، ويتسع مدراجه لـ 260 طائرة، وسيلبي حاجيات تركيا في الطيران لقرن مقبل.
وهذا المطار سينجزه القطاع الخاص والدولة سلمته الأرض، وسيؤدي إيجارا لهذه الأرض قدره مليار أورو كل سنة، على أن تعود ملكية هذا المطار للدولة بعد مرور 25 سنة على استغلاله من طرف القطاع الخاص.
إن الاقتصاد التركي يحقق نسبة نمو تفوق السبعة بالمائة، وقد وصل الارتياح الذاتي بوزير السياحة إلى أن قال بجد (حفظنا الله من العين) وهو يستعرض رقما له معنى بالنسبة لنا نحن الذين نعرف السياحة ومطباتها، قال إن تركيا ستستقبل 40 مليون سائح خلال هذه السنة بمداخيل قدّرها بـ 32 مليون: "إننا نحتل الرتبة 10 في الترتيب العالمي للدول المستقبلة للسياح، وطموحنا هو أن نصل إلى الرتبة الخامسة".
هي ثمانية أيام بحلوها ومرّها في إسطنبول، تفاصيلها أكبر من هذا الحيز الصغير، ولكن مهما كانت انطباعاتنا بل تخوفاتنا من النموذج التركي، فالذي يبقى عالقاً من الزيارة لهذا البلد الجميل هو أن النجاح ممكن والتحدي مجدٍ والطموح سبب وجود. لقد تفوقت تركيا على نفسها خلال عقد ونصف العقد، ولها الحق في أن تطمح لتكون قوة دولية، المهم بالنسبة للآخرين هو أن يختاروا نموذجهم ويدافعوا عن مصالح شعوبهم، فدين السياسة هو المصلحة العليا للأوطان، وما عدا ذلك فهو سنابل فارغة.