أحمد عصيد
سألني بقلق أحد الشباب المتدينين خلال لقاء ثقافي قبل أيام: هل الديمقراطية تتضمن في مبادئها ومنطلقاتها الفكرية الإساءة للأديان أو السخرية منها، وكان جوابي كالتالي: الديمقراطية هي التدبير السلمي للاختلاف بين أطراف يفترض أنها متساوية في الحقوق والواجبات، وليست تنصّ في مبادئها على "الحقّ" في الإساءة للأديان أو المسّ بمشاعر المتدينين، حيث أن مفهوم الحرية في الديمقراطية يتحدد انطلاقا من مبدأ احترام الآخر وعدم الإضرار به.
وفي معرض توضيحي لمعنى "احترام الآخر" أضفت أن هذا الاحترام ينبغي أن يكون متبادلا، وليس احتراما من طرف واحد يستفيد منه فقط المتدينون، بل هو احترام متبادل يضمن التعايش المشترك، حيث يحترم المتدينون غيرهم ويحترمهم الغير كذلك. وما أن قلت ذلك حتى قام الشاب وغادر القاعة مغضبا، مما جعلني أتأكد أن مشكلة الذهنية التي ينشرها الإسلام السياسي، تظل باستمرار هي مشكلة الرغبة في جعل مزايا الديمقراطية في خدمة أهداف تيار سياسي معين، دون أن تكون في خدمة بقية الناس، وهذا يتعارض مع جوهر الديمقراطية ومبادئها التي هي في خدمة جميع مكونات المجتمع المختلفة.
ثمة نقطة ينبغي تعميقها لدى الشباب حتى يكونوا على بينة من أسباب التوتر الحالي بين الغرب والمسلمين بعد الأحداث الإرهابية التي هزت العديد من البلدان مؤخرا، فلدينا حملات استقطاب من الطرفين: الغرب ضد الإرهاب ومن أجل حماية حرية التعبير من جهة، والعالم الإسلامي من أجل احترام المقدسات الدينية الإسلامية في البلدان الغربية من جهة أخرى، وهما مطلبان مشروعان تماما، لكن الملاحظ أن الطرف الإسلامي علاوة على عدم قدرته على التمييز بين الدين والدولة، لا ينتبه إلى أمر هام جدا، وهو أنه يطالب باحترام المقدسات الإسلامية دون أن يعكس في وعيه الديني احتراما لمقدسات الآخرين ومكتسباتهم خاصة على المستوى الثقافي والقيمي.
فالمسلمون الذين ابتلوا في العالم الغربي بتبني الوهابية العالمية والتشدّد الديني، يجدون صعوبة كبيرة في احترام المواطنين الغربيين المحيطين بهم، وهم يعزون هذا الاحتقار إلى عامل العقيدة، وفي مقابل ذلك نجد عنصرية اليمين المتطرف التي تقوم على الاعتقاد في دونية المهاجر ودونية ممتلكاته الرمزية، مما يجعل الوضع في غاية التعقيد، حيث تبدو مختلف أنشطة المواطنين الغربيين مثيرة لاشمئزاز جزء من الجالية المسلمة، كالحفلات والأفراح واللباس والمأكولات والموسيقى والرقص والبرامج التلفزيونية وقيم المساواة بين الجنسين وحرية التفكير والتعبير إلخ.. وهو ما يعبر عنه المواطن المسلم (المنخرط في تيار التشدّد الديني) بمقاطعة أنشطة المجتمع الغربي والحرص على العيش في كيتو مغلق خوفا على قيمه الخاصة التي يعتبرها أنقى وأسمى، كما يحرص على شحن أطفاله يوميا بقدر كبير من الكراهية للمحيط الاجتماعي الغربي، الذي هو الفضاء الوحيد الذي يمكن أن يحتضن هؤلاء الأطفال ويعيشوا فيه بصفتهم مواطنين ذوي حقوق.
وبالمقابل يعتبر اليمين المتطرف، الذي هو في صعود وتزايد مخيف، بأن كل تمظهرات الثقافة الدينية للمسلمين في الفضاء العام هي استفزاز لمشاعره، ما يردّ عليه بمواقف لاعقلانية. ينتج عن هذا الموقف الشاذ والمضطرب (الذي يمثل أقلية من الأفراد من الطرفين لكنها أقلية نشيطة ومثيرة للقلاقل)، ينتج عنه إخلال كبير بالتوازن النفسي والذهني للأطفال، حيث يفقدون الاحترام الواجب للآخرين، ويصبح نضالهم اليومي هو الرغبة في إثبات الاختلاف، لكنه "اختلاف متوحش" لأنه مبني على كثير من الكراهية للغير.
والواقع أنه لا ضرر في أن يعتبر المؤمن دينه أكثر مصداقية من الأديان الأخرى، وهذا ما يفسر فعل الإيمان ذاته، لكن شرط ألا ينعكس ذلك سلوكيا في صيغة تحقير الثقافات الأخرى ونبذ الآخرين أو النقمة عليهم أو الرغبة في إيذائهم. إن ما يفسر سوء التفاهم الحالي بين الغربيين والمسلمين في موضوع حرية التعبير والنقد هو رغبة المسلمين في استثناء الدين الإسلامي من كل نقد، لكنهم في مقابل ذلك لا يبذلون أي جهد لتجنب إقحامه في الصراعات السياسية، والعدول عن استعماله في إلحاق الأذى بالغير وإظهار واجب الاحترام لمن يخالفهم في الملة أو في الثقافة والعادات والقيم.
إن الدرس الديمقراطي بمفهومه الكوني والإنساني القائم على اعتبار الإنسان قيمة عليا محترمة، لا يمكن أن ينصّ على تحقير الأديان أو السخرية منها، لكنه بالمقابل لا يمكن أن يقبل بجعل الدين وسيلة سياسية للاستقطاب أو التجييش أو للحكم والهيمنة دون أن يُعرضه ذلك لما تتعرض له الوسائل السياسية والإيديولوجية الأخرى من نقد وهجوم.
فإذا كان الدين عند المتشدّدين سياسة، فإن كل سياسة تتعرض بالضرورة للنقد والاعتراض، وهو أمر طبيعي لا يمكن تجنبه، والحلّ هو إخراج الدين من دائرة المهاترات السياسية واعتباره اختيارا فرديا حرا يُحترم من طرف الجميع ولا يُناقش. إنّ هذا التوازن هو وحده الذي استطاع إنهاء العنف في العالم الغربي منذ قرون، ومن شأنه أن ينجح في إنهائه في عالم المسلمين عندما ينضج عندهم الوعي بذلك.