رئيس الديوان

رئيس الديوان

المغرب اليوم -

رئيس الديوان

رشيد مشقاقة

اندهشت لما رأيت قاضيا متقاعدا بأحد الحمامات الشعبية وهو يستخلص من المستحمين ثمن تذكرة الاستحمام، ويتأكد ما إذا كان مرافقيهم من الأطفال قد بلغوا سن أداء التذكرة أم لا. وتأكد لي أيضا صدق الخبر الذي أبلغني به صاحبي لما رأى قاضيا متقاعدا يسوق شاحنة تحمل الخضر من السوق المركزي.
وجال بي خاطري نحو أرض الكنانة، وأنا أرى بعين الخيال قضاتهم المتقاعدين، وقد راكم البعض منهم تجربة فتفرغ للتأليف ونشر العلم، والبعض منهم جلسوا بناديهم إلى زملائهم القضاة محافظين على هيبة القضاء وسلطانه.
وأيقنت أننا لا نعرف ماذا تعني صفة قاض التي نحملها، وأن هناك مأموريات خدماتية لا تليق بتاتا بالقاضي سواء كان عاملا أو متقاعدا. وقد ضاق أحد القضاة ذرعا بسلوك رئيس ديوان الوزير زمنا، فهو يقدر فيه صفة القاضي التي يحملها، لكنه لما تحول إلى آمر ناه باسم الوزير السياسي صرخ في وجهه قائلا: «اسمع يا هذا، إن ما جرى به العمل أن تتألف دواوين الوزراء من أتباعهم بالحزب الذي ينتمون إليه، وقد يكونون من الموظفين البسطاء أو العاطلين أو الأميين. ويبدو أنك في المكان غير المناسب».
لم يخطئ القاضي الغاضب، فما يسعى إليه بعضنا سعيا يخدش مكانته داخل المجتمع، وقد أجاب الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) القاضي علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) عندما قال له: «أنا أحق بأن آتيك يا عمر». رد عليه عمر قائلا: «القاضي يُؤتى ولا يأتي.»
فلو أمعنا النظر في سر تراجع هيبة القاضي لصارحنا أنفسنا بأننا نحن القضاة الذين نجرها إلى الحضيض.
لازالت قصة ذلك القاضي الطيب، وقد غادرنا إلى دار البقاء حاضرة أمامي، فقد ظل يكظم غيضه من غطرسة مديره إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تجرأ فيه عليه وأمره أمام جمع غفير من الحضور أن يأتيه بكأس قهوة من المقصف، فانتفض القاضي الراحل قائلا: «اذهب أنت فأنا لست نادلا. احترم صفة القاضي التي نحملها معا وغادر المكان».
ختم القاضي حياته بهذا الموقف الشجاع، وهو موقف كان ينبغي لزملائه أن يكرروه لنزع فتيل الاستبداد والاستعباد الذي مورس عليهم من طرف كائن متجبر وليس بشرا، ولكنهم آثروا السلامة وفوضوا أمرهم إلى الله.
نحن نستنكر تدخل الغير في مهامنا، وننادي برفعة القضاء وسموه، ولكننا في الوقت ذاته نفُتُّ في عضده، فقد كان للقضاة المتدربين حافلتهم الخاصة، ثم اختلط الحابل بالنابل، وكان لهم ناديهم الخاص ففتح النادي ذراعيه للمنخرطين من كل حدب وصوب. فالتفريط في هذه الجزئيات البسيطة وخدش خصوصية وتحفظ القاضي، تبعه مسلسل حذف السلطة التقديرية في عدة مجالات وإقحام وسائل بديلة لحل المنازعات.
وقد أبدى صاحبي الصحافي أسفه عندما شاهد رجلا أنيقا يضع منديلا على كتفه ويقدم طست الماء للضيوف الأكابر، فلما جلس إلى جواره سأله عن مهنته فقال: «أنا قاض. وخادم القوم سيدهم».
والحق أقول: «لم يظلمنا أولئك الذين يريدون تسليع القاضي وتحويله إلى آلة تقنية صماء. لم يظلمنا أولئك الذين يضعون رجلا فوق رجل ليصلحوا مهنتنا وهو في حكم مساعدي العدالة لا أقل ولا أكثر. لم يظلمنا أولئك الذين يصرون على أن تؤدى يمين القضاة أمام زملائهم لا أمام جلالة الملك الذي تصدر الأحكام باسمه. ولم يظلمنا أولئك الذين نفشي إليهم أسرارنا ونوشي ببعضنا البعض ونؤلب الصدور وننتهز الفرص.
نحن من ظلمنا ونظلم أنفسنا، عندما نجهز على من يقول كلمة الحق، ونسخر انتخاباتنا لخدمة من ينظم الطواف عبر محاكم المملكة ليصبح بين ليلة وضحاها مسؤولا قضائيا بيننا. وهي فئة غالبة لغاية يومه».
أَبعدَ هذا كله، تستنكرون علينا متى طالبنا بتقوية جهاز المناعة ضد أخطاء الأمس وتفاديها في مشروع القانونين التنظيميين للقضاة والسلطة القضائية؟ ومن المضحكات المبكيات أن يعارض القضاة أنفسهم في ذلك، وهم من الفئة التي زمجر في وجهها ذلك القاضي المتقاعد حاليا عندما قال لرئيس الديوان:
«أنت في المكان غير المناسب، فالقضاة ليسوا سُعاة».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رئيس الديوان رئيس الديوان



GMT 08:00 2016 الأحد ,04 أيلول / سبتمبر

الشيطان الأخرس!

أيقونة الموضة سميرة سعيد تتحدى الزمن بأسلوب شبابي معاصر

الرباط - المغرب اليوم

GMT 06:47 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
المغرب اليوم - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 06:55 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل
المغرب اليوم - أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل

GMT 13:53 2016 الخميس ,11 شباط / فبراير

لجين عمران تروج لماركة حقائب شهيرة

GMT 17:42 2023 السبت ,16 أيلول / سبتمبر

أفكار جديدة لديكورات غرف المكاتب المنزلية

GMT 05:48 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

تعرفي على "الصيحة" الأكثر رواجاً لتصاميم مطابخ 2019

GMT 07:11 2018 الثلاثاء ,26 حزيران / يونيو

أفكار لاستخدام "أسرّة الأطفال" في المساحات الصغيرة

GMT 20:54 2018 الجمعة ,15 حزيران / يونيو

عزيز بوحدوز يطلب من الجمهور المغربي أن يسامحه
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib