معتز بالله عبد الفتاح
كلما ازدادت المجتمعات نضجاً، قلّ اهتمام أفرادها بالتركيز على «مَن» يحكمنى وازدادت اهتماماً بـ«كيف» يحكمنى. لا تكون القضية اسم من يحكمنى أو شكله أو قبيلته أو حزبه، وإنما ما هو برنامجه ومنهجه وأسلوب إدارته، وما يقدمه لمجتمعه.
وكلما ازدادت المجتمعات تخلفاً، زاد اهتمام أفرادها بالتركيز على «مَن» يحكمنى دون اهتمام بـ«كيف» يحكمنى. لا بد أن يحكمنى شخص من قبيلتى أو عقيدتى أو حزبى، حتى لو لم يكن صاحب أفضل برنامج أو منهج أو أسلوب إدارة.
هناك فئة من الحكام تهتم دراسات الاقتصاد السياسى للتنمية بأن تسلط عليهم الكثير من الضوء أمثال أوسكار آرياس فى كوستاريكا، وكيم دى يونج فى كوريا الجنوبية، وألكسندر بستمانتيه فى جامايكا، ولولا دى سيلفا فى البرازيل، ومهاتير محمد فى ماليزيا.
وسأركز فى هذا المقال على اسمين ليسا معروفين بالقدر الكافى فى منطقتنا العربية.
فـ«كيم دى يونج»، الذى يعتبره الكثيرون نيلسون مانديلا الآسيوى، لتاريخه الطويل ضد الاستبداد، من نوعية القيادات التحويلية الملهمة. لقد اُعتقل أربع مرات نال خلالها الكثير والكثير من أشكال التعذيب وخسر الانتخابات أربع مرات ومعظمها بالتزوير، وتعرض للاختطاف ومحاولات قتل خمس مرات على الأقل، وأجبر على الحياة فى المنفى لعدة سنوات، ومع ذلك لم ييأس قط فى كفاحه من أجل الديمقراطية والتنمية داخل كوريا الجنوبية وللسلام والوحدة مع كوريا الشمالية.
وأخيراً فاز فى انتخابات عام 1997 ليواجه مأزقاً اقتصادياً وضع كوريا الجنوبية على شفا الإفلاس، حتى يعيد المجتمع والدولة إلى نقطة التوازن، فيحدث نمو اقتصادى بلغ 10٪ فى عام 1999، وذلك عقب سنة 1998 التى كان النمو فيها بالسلب (نحو 6٪) من خلال ترشيده لتدخل الدولة وإصراره على تطبيق قواعد الشفافية والمساءلة بكل صرامة مع التقليص المتدرج لدعم الدولة للقطاع الخاص.
والأهم من ذلك، أن الرجل عفا عن الزعماء السابقين وبعض معاونيهم الذين أساءوا إليه من أجل خلق ثقافة جديدة تقوم على التعاون والتعايش. وهى السياسة نفسها التى تبناها تجاه كوريا الشمالية وكُرِّم بسببها بجائزة نوبل فى عام 2000، وأصبح اسمه واحداً من كلاسيكيات الحكم الرشيد فى العالم، وهو ما تم اختباره حين قبل تماماً حكم القانون وإجراءاته عندما حوكم ابناه بتهمة تلقى رشوة وحكم عليهما دونما أى اعتبار لكونهما ابنى الرئيس. وتظل كوريا الجنوبية نموذجاً يحترمه دارسوها للدور البارز الذى لعبته قياداتها فى بنائها سياسياً واقتصادياً.
ولنقفز إلى كوستاريكا، لنشهد هذا النمط من القيادات فى شخص الرئيس أوسكار آرياس، رئيس الدولة لفترتين (1986 إلى 1990 ثم من 2006 حتى 2010). ومع أن كوستاريكا دولة بلا جيش فإنه قاوم بشدة أن يكون مجرد أداة فى يد الولايات المتحدة، لا سيما برفضه أن يكون رأس حربة ضد متمردى السندنيستا فى نيكاراجوا، كما رفض دعم القوى المدعومة من قبل الولايات المتحدة من أرض كوستاريكا. وهو فى هذا لم يفعل أكثر من الاستفادة من روح الديمقراطية التى استفاد منها أردوغان، حين رفض البرلمان إعطاء الولايات المتحدة الحق فى استخدام الأراضى التركية للهجوم على العراق دون تفويض صريح من مجلس الأمن.
ويبدو أن هذه النوعية من القيادات تسعى لأن تؤسس للسلام العادل فى محيطها الإقليمى. وهو ما فعله آرياس فى عام 1987 بعد أن أقنع زعماء نيكاراجوا، والسلفادور، وجواتيمالا، وهندوراس بأن يوقعوا اتفاقية سلام أشرف على صياغة بنودها بنفسه لتنهى عقوداً من الحروب والكر والفر بين هذه الدول المتجاورة، بل ساعد على إنهاء حروب أهلية عدة فى دول أمريكا الوسطى، وهو السبب الرئيسى فى منحه جائزة نوبل للسلام فى عام 1987.
ولم يزل شعب كوستاريكا يحتل قائمة أكثر شعوب الأرض سعادة وفقاً لدراسات عدة تركز على قدرة البشر على الاستفادة من الطبيعة والتمتع بحقوق الإنسان دون النيل من حقوق الأجيال المقبلة بالمحافظة على البيئة. ولـ«آرياس» مكانة كبيرة فى أمريكا اللاتينية كلها، ويلقب بـ«قديس السلام»، لأنه لا يكل ولا يمل من بذل الجهد من أجل أمريكا لاتينية خالية من الفقر والمرض والحروب والاستبداد، وهى أمراض المجتمعات المتخلفة كما يصفها.
الخلاصة: إن الشعوب كما السوائل تأخذ شكل الإناء الذى توضع فيه، هذا الإناء يكون المؤسسات والقوانين والأهداف التى تضعها القيادة لها.