زائر شقة « ستيفاني كوتاس » المطلّة على ساحة الولايات المتحدة في الدائرة السادسة عشرة الباريسية، لا يسعه إلا الإعجاب بتلك اللمسات البديعة التي تطرّز، ليس فقط كل محتويات الشقة من قطع أثاث وأكسسوارات، بل تنسحب أيضاً على جدرانها وسقفها وأرضيتها .
فهذه المهندسة الزخرفية، لا تحاول – من جهة - أن تخفي ميولها « التبسيطية » ، ولكنها من جهة ثانية تؤكد قدرتها على خلق أجواء خاصة مؤهلة لتوفير رفاهية فريدة وأناقة أكثر فرادة ... فنحن هنا أمام إماطة اللثام عن نهج زخرفي لا يلعب فقط خارج ساحة التيارات والأساليب، بل يتعدى ذلك في خروجه على دورات الأزمنة والعصور .
بأسلوب سحري تقودنا الى عشرينيات القرن الماضي، العصر الذهبي لـ «الآرت ديكو»، ولكنها تذكرنا فجأة بأننا في بدايات الألفية الثالثة، وأن الخطوط النقية والخيارات البارعة للمواد والأشكال والألوان لا تتناقض في بعدها الزخرفي مع فكر «المينيماليست»، بل تتكامل معه، وربما تقود الى نهايات تتناغم مع معطيات العصر وشروطه.
لذا، فإن هذه الشقة التي انتهت «كوتاس» من إعادة تجديدها، تكشف عن جوانب أخرى خفية من أسلوبها الزخرفي والذي يتسم بالأناقة والرفاهية البالغتين، مع نغمات من الجسارة والغرابة والطرافة.
فهذه المهندسة المولعة بالفنون وجمع التحف والأعمال الفنية وجدت في شقتها الجديدة هذه مساحة مثالية لابتكار مناخ زخرفي خاص يليق بعرض مجموعاتها من قطع أثاث وعناصر زينة وتحف فنية وصور فوتوغرافية ومنحوتات ولوحات تشكيلية.
ومن أجل ذلك، عززت مقارباتها وصيغها، بخيارات مبهرة لمروحة مواد طبيعية يتصدرها الجلد والمعادن الصقيلة والأخشاب الخالصة والكريستال مروراً بالرخام والأقمشة النبيلة وصولاً الى الزجاج... كل هذه المواد تمت صياغتها وتوظيفها ببراعة نادرة وبدقة المجوهرات، بغية توفير أجواء بالغة الخصوصية والثراء الزخرفي.
ولأن «كوتاس» انطلقت عند وضع تصاميمها من فكرة رئيسة تعتمد على إلغاء الحواجز بين المدخل والمساحات المحيطة لتسهيل حرية الحركة والتنقل فيها، فقد حولت الفضاء الذي يجمع المدخل والصالات الى مساحة عرض دائم للأعمال الفنية والتي أثْرت بتنوعها وروعتها روح المكان ومنحته مزيداً من الأناقة والجاذبية.
على أن ذلك لم يمنعها من المحافظة على بعض المكونات السابقة التي تميز طابع المكان الأصيل وهويته الهندسية، كالمدافئ المزخرفة والجدران البيضاء والسقوف المزينة بأفاريز بسيطة الخطوط تتوسطها دوائر تحمل في روحية تصميمها لمسة من أجواء تيار الـ «آرت ديكو». وتتدلى من داخل الدائرة ثريات فاخرة من الكريستال كالتي تزين الصالون والتي تحمل توقيع «باكارا».
استغرقت عملية التجديد 18 شهراً تحولت خلالها هذه الشقة النموذجية في كلاسيكيتها إلى فضاء عصري جميل فيه الكثير من الأناقة والخصوصية، حيث عمدت المهندسة من خلال تصميمها الى فصل صالة المعيشة والطعام والمكتب والمطبخ عن الجناح الليلي بغرف نومه المطلّة على حديقة داخلية غارقة في الهدوء.
إن أكثر ما يلفت في الشقة، ليس التنسيقات والتوزيعات فقط، وإنما بزوغ الفلسفة الكامنة خلف كل خيار من قطع الأثاث والأكسسوارات وملاءمتها لفضاء المكان... فعلى الرغم من توافر كل معايير التنسيق والتوزيع، وعلى الرغم من حضور كل الأشكال والألوان، إلا أننا نلاحظ – من دون تحفظ – ولع سيدة المكان بالفراغات الثمينة... فالحنكة في الخيارات المحكمة لكل العناصر والتفاصيل، يتبدّى بوضوح الهدف الرئيس وراءها، وهو دعم الفراغ وتحسين شروطه من أجل حيازة مقدار أكبر من الحرية، ليس في التنقل والحركة داخل الشقة وحسب، وإنما في «التنفس» وتأمين نمط حياة مكتملة المتطلبات الصحية والنفسية.
فالمدخل يبدو هنا مفتاحاً محورياً ليس لقراءة الأسلوب، وإنما كنواة «صلبة» لا تتحلق حوله الأركان فقط، ولكن تتمازج فضاءاتها المحيطة أيضاً، لتحوله الى رحم تتناسل منها حيوات متجددة، تتوجها أعمال فنية تشيع السلام في الداخل ولا تنفصل عن فلسفة المكان نفسه.
ومن هنا فإن خيار لوحة لـ «المهاتما غاندي» تحمل توقيع الفنان الفرنسي «تييري ميشيليه»، الى جانب لوحة تجريدية حديثة بألوان صادمة ومتصادمة، لم يكن مجرد صدفة، بقدر ما هو خيار يعكس في رمزيته أسلوباً زخرفياً يصعب إقحامه في دائرة التصنيف.
ولعل فكرة الكونسول الرخامي المفتوح على كل الجهات دعمت تطلع المهندسة لتحويل المدخل الى ما يشبه قلب المتحف... إذ إن الأعمال الفنية المعروضة فوقه تشي بالكثير من هذا القبيل. فتنسيق المدخل والذي يتناغم بشكل مدهش مع الباب الرئيس المزدوج والمُصاغ من الخشب المطعّم بحجر «الزيلونيت» الأبيض المصقول، يدعونا للتأمل فيه كتحفة فنية مضافة. بينما تم تلبيس الأرضية بخشب السنديان الخالص لإضفاء جو من الدفء والنعومة على المكان.
أينما تنقلنا في الشقة، نجد بصمات «كوتاس» متناثرة بوضوح في كل تفصيل فيها... ففي الصالون تلفت الأنظار سجادة منقوشة برسوم مدهشة من تصميم «ستيفاني كوتاس» لعلامة «تاي بنغ» تتميز بألوان ناعمة ومظهر فاخر، وقد نُسقت فوقها جلسة تحتلها أريكتان متقابلتان تتوسطهما طاولة منخفضة مميزة... ويتكامل مع أثاث الصالون خلف كل كنبة كونسول بديع من الخشب الداكن اللون تعلوهما مصابيح بأشكال فنية من مواد مختلفة.
أما سقف الصالون فهو لافت بزخرفته الأصلية التي جسدتها أفاريز تنتمي إلى عصر مضى.
جدران الصالون البيضاء، تم استثمارها - من جهة – لتعليق لوحات فنية لفنانين مشهورين أمثال «كيد» الذي تعكس أعماله قضايا إنسانية واجتماعية مثل اللوحتين على جانبي المدفأة، أو لتثبيت مرايا خلف منحوتات تمنحها مظاهر جديدة من خلال زيادة البعد الافتراضي لكل عمل.
صالة الطعام المجاورة للصالون والمطبخ، تم تنسيقها بطاولة لافتة قاعدتها تبدو كمنحوتة تعلوها ألواح من الرخام البديع... وحولها كراسٍ ملبّسة بقماش من التويد يغلب عليه اللونان الأسود والأبيض، يذكرنا بخمسينيات القرن الماضي، وفوق الطاولة تتدلى عناصر مبتكرة للإضاءة من ابتكار «إيرفيه لانغليه».
أما أطقم فنون المائدة وأدواتها المصنوعة من الكريستال فقد حملت توقيع «باكارا». وفي إحدى زوايا الصالة منحوتة من السيراميك الأبيض، تمثل قطعة «بونبون» بحجم كبير، مما أضاف لمسة طرافة على الجو.
صالة المكتب اختارت لها قطعاً فريدة من الأثاث والأكسسوارات والأعمال الفنية الأخاذة، وأمام الجدار الملبّس بخشب الأبانوس المصقول والمعرّق والمزوّد برفوف مزنرة بالبرونز، تنتصب تحفة فنية رائعة هي عبارة عن منحوتة كبيرة، نُسق الى جانبها مكتب مستعاد من خشب السنديان مصاغ بأسلوب بارع، ويتكامل هذا المكتب مع المنحوتة البرونزية خلفه والجدار الملبّس بخشب الأبانوس المصقول مع مقاعد ومناضد مبتكرة بشكل هرمي من المعدن... وفي غرفة ملحقة، تم تنسيق كنبة وثيرة أمام حائط مزخرف، وفي المقابل جدار ملبّس بمرآة كبيرة تعكس التحف الفنية والمنحوتات وتمنحها قيماً مضافة. ولعل الطاولة المنخفضة التي تتوسط هذه الغرفة تجعل القلب يخفق بسرعة قياسية، لجمالها وسحرها.
الممر الذي يقود الى الجناح الليلي في الشقة، تم تلبيس أرضيته بالرخام الأبيض، مع الإبقاء على سقفه الأصلي والذي تزينه أفاريز بسيطة الأشكال من اللون الأبيض.
غرف النوم بشكل عام تستضيف مجموعات راقية من المنسوجات الطبيعية الفاخرة والتي تذيّلها أسماء مختلفة شهيرة مثل «ريبيلي» و«شيفاسو» وغيرهما...
غرفة النوم الرئيسة تتميز بالفخامة... جدران ملبّسة بالجلد المصمم على شكل مربعات محشوة، من اللون الأبيض وهي تتناسق مع أجواء الأفاريز التي تزين السقف والتي تحيلنا الى الأصالة من خلال طابع الـ «آرت ديكو». أجواء الغرفة مفعمة بالدفء والحيوية، وقد اختارت كغطاء لأرض هذه الغرفة، سجادة بلون محايد... أما السرير فيتمتع بمظهر بسيط تحيطه من كل جانب مناضد من ابتكار «هوغو شوفالييه».
غرفة الضيوف تمتاز بمظهر أنيق وفاخر تزيّنها ستائر مخملية ومفارش للسرير تقطر نعومة.
الحمام الرئيس في الشقة يخيم عليه جو من الفخامة بخيارات رائعة من الرخام المعرّق والبرونز والزجاج... مواد تنسجم بتناغم بالغ في ما بينها، مما يعزز أسلوب التصميم ويمنح مكوناته مظهراً رائعاً.
المطبخ يتميز بتصميم بسيط منسّق بخزائن من الخشب المطلي باللون الأبيض يعلو بعض مسطحاتها رخام أسود بعروق من اللون الأبيض، وتندمج داخل هذه الخزائن كل معدّات التحضير وأدوات المطبخ والأجهزة الكهربائية، مما يمنح المكان طابعاً بسيطاً ومجرداً.
الشقة بأكملها تبدو أيضاً كواجهة لإبداعات «ستيفاني كوتاس» المصممة، لخطوط مجموعاتها الحديثة من الأثاث، إضافة الى بعض من قطع الأثاث القديم والأكسسوارات التي استُقدمت من منزلها السابق وأُعيد توزيعها في الشقة بأسلوب فريد ومهارة في فهم المواد والأشكال المختلفة.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر